الهموم ليست شراً كلها

قال الصحابي الجليل، علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

 أشد جنود الله عشرة : الجبال الرواسي والحديد يقطع الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض يحمل الماء ، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو الشيء ويمضي لحاجته ؛ والسُّكْر يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السُّكر، والهم يغلب النوم ، فأشد جنود الله الهم.

  ألا ترى المهموم حزيناً مغموماً ومكتئبا، لا يستقر على حال بسبب القلق مما هو آت ؟ قلق من مجهول أو مستقبل غامض، أو ظلم متوقع قادم، أو خوف من مرض وغيرها من هموم.. إن من يُغمس غمسة في بحر الهم، يخرج كأن لم يذق حلاوة الدنيا قط، وإن كان أغنى الأغنياء.. وليس غريباً إذن وهذا هو حال المهموم، أن يدعونا خير خلق الله محمد بن عبدالله، عليه الصلاة والسلام، أن نستعيذ من الهم ومعه منغصات أخرى عديدة، ونكرر دعاءّ مأثوراً عنه صلى الله عليه وسلم صباح مساء :" اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " .

   لكن ما يجدر ذكره في هذا المقام أن الهم والقلق مما ذكرناه قبل قليل ، عادة يكون ناتجاً عن ضعف إيمان بالله وعدم ثقة به سبحانه والتوكل عليه، وضعف إيمان بالقدر، خيره وشره .. وهو كذلك سوء ظن بالله ، والله عند حسن ظن العبد به كما في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم:  إن الله عز وجل قال : أنا عند ظن عبدي بي، إنْ ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله .

    

الناس في الابتلاءات مذاهب


  أحدنا قد يتعرض لمحنة أو مصيبة أو ابتلاء، فتجده من شدة الابتلاء لا يصبر. والناس قدرات ودرجات في الصبر، فيتأفف ويتململ وبالتالي يضيع الأجر، وهو المقصد الرئيسي من الابتلاء أو المحنة. نعم قد يرفع الله عنه البلاء أو المصيبة بعد حين، لكن بعد أن يكون قد أخفق في الاختبار.


  حياتنا الدنيوية ما هي سوى قنطرة، أو طريق مليء بالمحن والابتلاءات على اختلاف أنواعها وشدتها، بل هي أكثر مما يمكن أن نحصيها ونحصرها هاهنا. لكن المتفق عليه أنها أمر طبيعي. لماذا؟ لأننا نعيش - كما أسلفنا - في دار امتحان وابتلاء. وهذه حقيقة من حقائق الحياة التي لابد أن نعيها ونتفهمها جيداً، كيلا نعيش في قلق وتوتر دائمين.


  حوادث الدنيا والمحن المتنوعة إن جاء وقتها كما هي مقدّر لها، فلن تميّز بين أحد. الناس كلهم سواسية أمامها. بمعنى أن المصيبة لو نزلت، لا تعرف فقيراً أم غنياً، قوياً أم ضعيفاً، مسلماً أم غير مسلم، كبيراً أم صغيرا.. وليس هذا هو المهم في حديثنا، بقدر أهمية الكيفية التي علينا التعامل معها، لأن هذه الحوادث والابتلاءات ما هي إلا جملة اختبارات من بدء التكليف حتى الممات، حتى يخرج أحدنا من مدرسة الحياة المخصصة لاختبارات متنوعة عديدة وكثيرة، وبنتيجة محددة واضحة: إما نجاح وانتصار أو رسوب وإخفاق.


  المسلم المؤمن يتعلم منذ نعـومة أظفاره مسألة الإيمان بالقدر خيره وشره، فتجعله يطمئن إلى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويكون موقناً تمام اليقين أنه يُثاب على أي مكروه يصيبه، حتى الشوكة يشاكها، له فيها أجر. أجر الألم أولاً، ثم أجر الصبر على الألم ثانياً. وقد تعلمنا من ضمن دروس الإيمان الأولى ضمن المراحل الدراسية المبكرة، أن المؤمن أمره كله خير، إن أصابه خير فشكر كان له أجر، وإن أصابه شر فصبر كان له أجر أيضاً..  

كتب ربكم على نفسه الرحمة

  
   قال الفضيل بن عياض: جاء قوم من المسلمين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا، فأعرض عنهم؛ فنزلت ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ). 

   هذه واحدة من الآيات المبشرة للؤمنين، وإن كانت نزلت في حادثة معينة، إلا أن ما جاء فيها يشملهم وكل مؤمن يأتي بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الله عز وجل – كما يقول القرطبي:" كتب على نفسه الرحمة أي: أوجب ذلك بخبره الصدق، ووعده الحق، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئاً فقد أوجبه على نفسه. 

    إذن هي بشارة وتكريم للمؤمنين ووعد صدق منه سبحانه، أن من يخطئ ويذنب، ثم يستغفر الله، يجد الله غفوراً رحيما. فالإنسان منا في هذه الدنيا أو هذه الجهالة، غير معصوم من الخطأ، ومن يعمل السوء بجهالة، ثم يعود سريعاً إلى رشده، آيباً تائباً حامداً، فهو بإذن الله ضمن الوعد الإلهي أو الرحمة الإلهية، كما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:" لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي". 

 ومما يناسب هذه الآية من الأحاديث أيضاً، كما قال ابن كثير في تفسيره، قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل: أتدري ما حق الله على العباد؟ أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا، ثم قال:" أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ ألا يعذبهم".